عرف مفهوم الدولة الاجتماعية تطورا كبيرا، وهو مفهوم يمكن تلخيصه في الدولة المتدخلة لحماية الحقوق الاقتصادية والاجتماعية للمواطن، حيث أولى المغرب أهمية قصوى لهذا الاختيار تماشيا مع التوجهات الملكية التي ما فتئ يؤكد عليها عاهل البلاد، وتماشيا مع مضامين دستور2011 الذي أكد في فصله الأول على البعد الاجتماعي للدولة المغربية، وفي فصله 31 على أن تعمل الدولة والمؤسسات العمومية والجماعات الترابية على تعبئة كل الوسائل المتاحة لتيسير أسباب استفادة المواطنين والمواطنات على قدم المساواة بالعديد من الحقوق.
هذا وقد برز دور الدولة الاجتماعية كواحد من الدروس الكبرى المستخلصة من جائحة كوفيد 19، حيث استطاع المغرب أن يقدم تجربة رائدة في تدبير التعاطي مع وضع غير مسبوق، وهي تجربة كانت محط إشادة واهتمام العديد من الهيئات الدولية ، تجربة استطاعت تمكين كل فئات المجتمع، خصوصا تلك التي تعاني الهشاشة، من تدبير هذه الظروف الصحية الطارئة ومواجهة آثارها السلبية.
ولنقاش هذا الموضوع ذي الراهنية القصوى، احتضن المعرض الدولي للنشر والكتاب بالرباط في دورته الثامنة والعشرين، ومن تنظيم وزارة الادماج الاقتصادي والمقاولة الصغرى والتشغيل والكفاءات، ندوة علمية بعنوان «في أفق إرساء الدولة الاجتماعية: المتطلبات والإكراهات» بمشاركة عدد من الأساتذة الجامعيين والخبراء والمختصين، بهدف معالجة موضوع بناء الدولة الاجتماعية من زوايا مختلفة ورؤى متقاطعة للأساتذة الباحثين لتبادل الخبرات والتجارب واستكشاف التحديات التي من شأنها عرقلة التحقيق الفعلي للدولة الاجتماعية .
السيد يونس السكوري الوزير على القطاع الوصي اعتبر أن الدولة الاجتماعية هي فضاء لتلاقح الفكر والسياسة والاقتصاد باعتبارها مفهوما يسائل الجميع، يسائل الحكومات والدول والمجتمعات التي تملك من الإمكانيات ما يكفي للإجابة من خلال بنياتها المؤسساتية ومن نخب فكرية وسياسية ومن ميكانيزمات اتخاذ القرار ما يسهل إنتاج قرارات للحماية الاجتماعية في بعدها الشمولي، فرغم كل الإمكانيات التي تتوفر عليها الدول المتقدمة إلا أنها عانت من عدم التوازن بين العرض السياسي والحكومي وما ينتظره المواطن والمجتمع في المقابل، ما يجعلنا مطالبين ببذل المزيد من الجهود لتحقيق إصلاحات جوهرية على مستوى مدونة الشغل بحيث لا دولة اجتماعية بدون حماية اجتماعية إما بشكل كلي أو تضامني أو تكميلي، ما يتطلب توضيح اختياراتنا والحاجة لبناء فكري لتعميق النقاش وبلورة الحلول الكفيلة بالتأسيس لتفعيل الحماية الاجتماعية وفق ما يجب عليه أن تكون، ما يعكس الاختيارات الكبرى لطموحنا الجماعي في المضي قدما نحو وتيرة قوية للتنمية لا تعفي أحدًا والعمل على تحرير الطاقات وإدماج ودعم جميع فئات المجتمع، والنهوض بالأوضاع الاجتماعية والصحية في أفق تعزيز التنمية في مختلف أبعادها وتحقيق الرفاه وضمان الإقلاع الاقتصادي لمواجهة التحولات المتسارعة والمتداخلة وتداعياتها الاجتماعية والاقتصادية لاسيما في ظل سياق دولي مطبوع بأزمات حقيقية حالية ومستقبلية.
من جهته، حدد أستاذ العلوم السياسية والمفكر عبد الله ساعف، مفهوم الحماية الاجتماعية عبر دوائر محددة وهي الصحة الشغل التعليم والسكن عبر سن مجموعة من السياسات الاستدراكية لمعالجة قضايا متأخرة بخصوص المرأة والطفل والشباب، باستدراك ما لم يتم التطرق إليه في مراحل سابقة التي حددت مجموعة من الإشكاليات عبر تخصيص أظرف أو ميزانيات فرعية موزعة في قطاعات معينة ومخصصة لقضايا معينة بقانون المالية والتي تعالج قضايا اجتماعية مختلفة.
إن مفهوم الكرامة الإنسانية حسب الأستاذ ساعف، جعلنا نكتشف إشكاليات جديدة فجأة أصبحت متواجدة في البرامج وفي الخطاب السياسي، حيث اعتبر أن الحماية الاجتماعية أحد العناصر المحددة لبلورة الدولة الاجتماعية المرتبطة بجدلية الكرامة الإنسانية والعدالة الاجتماعية المبنية على توجهين: توجه مبني على إعادة التوزيع أي زيادة الأجور الضرائب المنح… وتوجه يرتبط بالتعويض عن الضرر، وأنه يجب أن تتجاوز مبدأي التوزيع والتعويض، لتتجاوز ذلك نحو تقويتها بأبعاد أخرى تتركز في تقليص الفوارق بشكل شمولي والتي يجب أن تتبلور بشكل أقوى في السياسات العمومية.
بدوره، قدم الأستاذ محمد الطوزي محاولة للتأمل في الدولة الاجتماعية، محيلا على علاقة المغاربة مع الدولة أو علاقة الدولة مع المجتمع، حيث أن الدولة غالبا ما كانت خارج المجتمع إما عن طريق إعمال واستدراج الأقليات للحكم ما جعل المسؤولية الاجتماعية للدولة خارج المجتمع، وإما عن طريق مسؤولية الحاكم في إطار مفاهيمي وفلسفي عام هو الاستخلاف، ما يحيلنا على إطار فلسفي آخر وهو إطار رعوي.
كما اعتبر ذات المتدخل لأن حكومة التناوب التوافقي بقيادة المجاهد الراحل عبد الرحمن اليوسفي هي من يعود لها الفضل في التأسيس للإطار الإجرائي للدولة الاجتماعية، كما يرى بأن الثقافة السياسية في المغرب لا تنفي المسؤولية تجاه المغاربة لكن دائما في إطار الرعاية، معتبرا أن نقطة التحول في هذا الاتجاه وعلى المستوى الشعبي هي حادثة أنفكو بالأطلس المتوسط، حيث أبانت عن أننا بحاجة إلى ثورة حقيقية بخصوص الحماية الاجتماعية، بعد ذلك عرج على النموذج التنموي الجديد الذي جاء للإجابة عن إخفاقات السياسات العمومية خاصة بعد تفشي فيروس كورونا الذي جعل المواطن في صلب اهتمام الدولة (الدولة الحاضنة) وإعادة بناء منسوب الثقة كمؤسسة لعلاقة المواطن بالدولة لأن غياب الثقة في التعامل بين الدولة والمجتمع له سومة جد مكلفة على مستوى تدبير الشأن العمومي، إذ لابد من مراجعة السياسة الضريبية وتحسين ظروف العمل لإعادة بناء حدود أخرى لعلاقة الدولة الاجتماعية بالمخيال الجمعي للمغاربة.
في نفس السياق، تساءل الأستاذ والحقوقي لحبيب بلكوش عن راهنية سؤال الدولة الاجتماعية الذي فرض نفسه بقوة، خاصة أنه وليد الأزمة على مستوى سياسات الدولة التي ترجمت من خلال الحركات الاحتجاجية ومن خلال الخصاص الذي تعاني منه القطاعات الاجتماعية، والذي تأكد كذلك من خلال ما طرحته تداعيات الكوفيد من تحديات أبرزت هشاشة الحماية الاجتماعية داخل البلد ، وأيضا مخاطر هشاشة قطاعات لم تكن تحظى بالاهتمام والتي لها ارتباط بالدولة الاجتماعية كالصحة والتعليم ليأتي في ما بعد الإقرار بفشل المشروع التنموي في البلد وطرح التفكير في نموذج تنموي جديد يجيب على كل التحديات التي تنتظرنا.
واعتبر ذ.بلكوش، في السياق ذاته، أن هناك إرادة سياسية حقيقية يجب أن تجد ترجمتها في السياسات العمومية، لأن ما أفرزته أزمة كوفيد هو أنه متى توفرت الإرادة الصريحة، نكسب ثقة المواطن ونضمن نجاعة في الأداء وانخراط الجميع بمسؤولية في إنجاح هذه الأوراش ضمن مشروع مجتمعي متكامل وهو المشروع التنموي الذي يجب أن تتوفر له كل الشروط على مستوى سياسة الدولة لكي يحقق الأهداف المتوخاة منه بشكل متدرج يمكن من رصد المؤشرات التي تبني هذه الثقة في الدينامية الجديدة.
تحصين مشروع الدولة الاجتماعية لابد أن يراعي، بحسب ذ. بلكوش، تقوية الطبقة المتوسطة كحاملة لهذا المشروع ولتوسيع قاعدة التنشيط الاقتصادي لهذه الفئة الحامية لمشروع الدولة الاجتماعية ما يستدعي كذلك، تحصين البناء الديموقراطي الذي يستوجب نخبا جديدة قادرة على الدفاع عن هذا المشروع وحاملة له، ومبلورة للاستشرافات الممكنة أمام التحديات التي تطرحها العولمة.
ويرى ذات المتدخل بأن تكريس الاختيار الديموقراطي كفيل بتعزيز هذا التوجه نحو ارساء ركائز الدولة الاجتماعية، وإعادة الاعتبار للفعل السياسي الناجع والمكتسب لثقة المواطنين خاصة أن العديد منهم لا يثق في مؤسسات الوطن من حكومة برلمان أحزاب نقابات… وهو توجه غير سليم لأن عدم الثقة وعدم انخراط المواطن سيجعل المشروع معطوبا، وغير قادر على التطور والنهوض بالأوضاع الاجتماعية والصحية في أفق تعزيز التنمية في مختلف أبعادها الاقتصادية والاجتماعية والمجالية.